قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.
باب بدء الوحي من صحيح البخاري
51859 مشاهدة
سؤال هرقل عن ملك آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده

...............................................................................


السؤال الثاني: سأله: هل كان من آبائه من ملك؟ يعني: هل أحد من آبائه وأجداده قد كان مَلِكًا مُطَاعًا في العرب، مُلْكُهُ مشتهر ومنتشر، فاعترف أبو سفيان وقال: لا، ليس له أب قد صار ملكا، يقول هرقل: لو كان من آبائه من ملك لَقُلْتُ: رجل يطلب مُلْكَ أبيه.. وهذا حَقٌّ بمعنى أن الذي يسلب ملك أبيه أو جَدِّهِ يحرص على أن يستعيد ويسترد ملك آبائه وأجداده كما هو الحاصل.
يعني: كانوا قديمًا يأخذون الملك بالوراثة، يأخذونه بالوراثة، فمن كان آباؤه ملوكًا كان يطالب بملك آبائه وأجداده، ولما لم يكن أحد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم قد صار مَلِكًا للعرب في أول الأمر، لم يكن هذا دافعًا له إلى أن يطلب الترأس، وإلى أن يطلب الملك، وإلى أن يطلب الشرف، فليس هو مثل الملوك، ولا يريد ملك الملوك، بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يحب التواضع، ويحب تصغير نفسه، والتذلل لله تعالى.
ولهذا وصفه الله تعالى بالعبودية، وصفه بها في أشرف الصفات، وفي أشرف الأماكن، فقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا وصفه بأنه عبد، ليس بملك، وكذلك في قوله: سبحان الذي أسرى بعبده وقوله الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا وكذلك تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وغيرها من الآيات، وكان صلى الله عليه وسلم يحب التواضع ، في حديث عبد الله بن الشِّخِّير قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا له: أنت سيدنا، وابن سيدنا، فقال: السيد الله ! قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم! أنا محمد عبد الله ورسوله! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله افتخر بأنه عبد، وتَمَيَّزَ بأنه رسول، فلا ينزل نفسه منزلة الملوك.
وكذلك لما جاء مرة ليجلس أرادوا أن يُصْلِحُوا له فراشا، فجلس على الأرض، وقال: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد من باب التواضع، وكذلك لما جاءه أعرابي ليسلم، كأنه ارتعد ذلك الأعرابي، وظن أن النبي له مكانة، وله شهرة، فأجلسه إلى جنبه وقال: إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل الْقَدِيد يعني: اللحم الْمُيَبَّس، يعني: لستُ مَلِكًا.. لستُ مَلَكًا.. لستُ من غير البشر، بل أنا بَشَرٌ، أنا بَشَرٌ مثلكم، فاختار الله تعالى له التواضع والعبودية، ولم يَخْتَرْ له الملك.
في حديث الإسراء يقول: إن الله خَيَّرَنِي أن أكون مَلِكًا رسولًا، أو عَبْدًا رسولًا، يقول: فأشار إِلَيَّ جِبْرِيلُ بالتواضع، فقلت: عبدًا رسولًا من باب التواضع؛ فإن مَنْ تواضع لله رفعه ، ولو كان قد دانت له البلاد الإسلامية، ودانت له العرب لما أسلموا، وصار هو الذي يأمر فيهم، ولكنه ما نصب نفسه كما ينصب الملوك أنفسهم، فيتوسعون في الدنيا، بل كانت مساكنه مساكن لاطِئةً أي سقفها يناله إذا مد يده؛ مساكن من الطين، وكذلك أيضًا كسوته ولباسه ونحو ذلك، ولما خُيِّرَ عليه الصلاة والسلام بين أن تكون له بطحاء مكة ذهبًا اختار ألا تكون، واختار أن يجوع يومًا، ويشبع يوما، يقول: فإذا جعت تضرعت إليك، وذكرتكَ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك.. فهكذا اختار الله تعالى له التذلل والعبودية، فلم يكن ملكا من الملوك، لا يطلب ملك آباء له، ولا يريد التملك بنفسه، ولا ينزل نفسه منزلة الملوك.